الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} {مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تناصرون} أي لا ينصر بعضكم بعضاً، والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم تزعمون في الدنيا، فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجال والتقريع والتوبيخ حينئذ أشد وقعاً وتأثيراً، وقيل: السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم السلام لما أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم أنهم مسؤولولن، والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم، وعطف {اهدوهم} [الصافات: 23] على {احشروا} [الصافات: 22] بالفاء إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم، وسؤالهم ما لكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجههم إلى النار والله تعالى أعلم. وقرأ عيسى {أَنَّهُمْ} بفتح الهمزة بتقدير لأنهم، وقرأ البزي عن ابن كثير {لا} بتاءين بلا إدغام إحداهما في الأخرى.
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)} {تناصرون بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة والانقياد لازم لذلك عرفاً فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضاً للهلاك ويخذله، وجوز في الإضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخدلون أو عن قوله سبحانه: {لاَ تناصرون} [الصافات: 25] أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخذولون.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن، وروى هذا عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد {يَتَسَاءلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال.
{قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)} {قَالُواْ} استئناف بياني كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقاً للقرناء {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدنيا {عَنِ اليمين} أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة، ولشرف اليمين جاهلية وإسلاماً دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية، وجعلت اليمين مجازاً عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازاً على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ تراباً فشمه ليعرف أنه مسلوك أولاً ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع {تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز؛ وكأن المراد بالخير الايمان بما يجب الايمان به، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيراً وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيراً ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكى هذا عن الزجاج. وقال الجبائي: المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله، وجوزوا أن تكون اليمين مجازاً مرسلاً عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل، والجار والمجرور في موضع الحال، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] أو هو ظرف لغو، وفيه بعد، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين موضع الكبد، وهو مخالف لما حكى عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحماً ولم يؤد زكاة.
{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)} {قَالُواْ} استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الإضراب عما قالوه لهم {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتَكم لا أنا نحن أضللناكم [بم وقولهم:
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)} {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين} مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض إضلالهم بأنهم لم يَجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم، وقيل: الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه [بم وقولهم:
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)} {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوماً طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا: ولأجل أنا جميعاً في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوماً طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز وجل، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضاً ولكن ليلم كل منا نفسه، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم، والفاء في قولهم:
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} {فأغويناكم} أي فدعوناكم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقاً بهم كان متفرعاً عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أن رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: {إِنَّا كُنَّا غاوين} بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق. ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الايمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يوجب الاعتقاد الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغير مراداً به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الايمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته وكثرتها وكنا جميعاً قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حباً لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أنيكون {فأغويناكم} مفرعاً على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم: {فَحَقَّ عَلَيْنَا} [الصافات: 31] الخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذاأن يراد بضمير الجمع في {فَحَقَّ عَلَيْنَا} الخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاذبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في {عَلَيْنَا} الخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر. وأياً ما كان فقولهم {إِنَّا لَذَائِقُونَ} هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكى كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم. ونحوه قول القائل: لقد زعمت هوزان قل مالي *** وهل لي غير ما أنفقت مال ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف. وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] والربط على ما تقدم أظهر.
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} {فَإِنَّهُمْ} أي الفريقين المتسائلين، والكلام تفريع على ما شرح من حالهم {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ يتساءلون والمراد يوم القيامة {فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ} كما كانوا مشتركين في الغواية. واستظهر أن المغوين أشد عذاباً وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)} {إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية {نَفْعَلُ بالمجرمين} أي بالمشركين [بم لقوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)} {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريق الدعوة والتلقين {لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} عن القبول. وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال. الأول: أن يكون الاسم الجليل مرفوعاً على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الابتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير. وإذا قلنا أن البدل في الاستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود، والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان. على أن الوجود في هذا المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الامكان عمن عدان عز وجل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى. وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى. واختار البازلي تقدير الخبر مؤخراً عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدماً يوهم كون الاسم مستثنى مفرغاً من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني، والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والاسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي، والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره، وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبراً عن العام. وكون الكلام مسوقاً لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعاً ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر، والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود، ولا خلل فيه صناعة وإنما الخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الاستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز وجل، واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لا سيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة، والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه، وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنياً مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ وأنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزمته لا تجد لك ثانياً فيه، والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفاً فإن إلهاً بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائماً مقام الفاعل وساداً مسد الخبر كما في مضروب العمران. وتعقب بمنع أن يكون إله وصفاً وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الايمان لكن المقصود الأهم منا التوحيد ولذا كان المشركون إذا لقنوها أو لا يستكبرون وينفرون.
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} {وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلاً تاماً به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة. وفيه نظر وكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول، نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلى الله عليه وسلم.
{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} {بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} رد عليهم وتكذيب لهم ببيان إن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلى الله عليه وسلم الرفيعة الشأن. وقرأ عبد الله {وَصَدَقَ} بتخفيف الدال {المرسلون} بالواو رفعاً أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم.
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} {إِنَّكُمْ} بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والاستكبار {يَرَوُاْ العذاب الاليم} والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراب بهم وهو اللائق بالمستكبرين. وقرأ أبو السماء. وأبان رواية عن عاصم {يَرَوْنَ العذاب} بالنصب على أن حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود: فالفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا بجر ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل. وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل. أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله: الحافظو عورة العشيرة لا *** يأتيهم من ورائهم نطف ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ {لذائق} بالأفراد والتنوين {يَرَوْنَ العذاب} بالنصب، وخرج الأفراد على أن التقدير لجمع ذائق، وقيل: على تقدير إن جمعكم لذائق. وقرىء {لَذَائِقُونَ} بالنون {العذاب} بالنصب على الأصل.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي الأجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا بما كنتم تعملونه منها.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء منقطع من ضمير {ذائقو} [الصافات: 38] وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلاً فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه الخ. ويجوز إن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، وقيل: استثناء منقطع من ضمير {تُجْزَوْنَ} [الصافات: 39] على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافاً مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا، ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلاً بتعميم الخطاب في {تُجْزَوْنَ} لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر، و{المخلصين} صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف.
{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} {أولئك} أي العباد المذكورون، وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازاً بالغاً، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وهو مبتدأ وقوله تعالى: {لَهُمْ} أما خبر له وقوله سبحانه: {رّزْقِ} مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم و{رّزْقِ} مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الاستثناء إجمالاً بياناً تفصيلياً وقوله تعالى: {مَّعْلُومٌ} أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، فلا يقال إن الرزق لا يكون معلوماً إلا إذا كان مقدراً بمقدار وقد جاء في آية أخرى {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلوماً، وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة، وتعقب بأن {فِي جنات} [الصافات: 43] بعد يأباه. واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فيها لم يكن به بأس. وأجيب بأن جعلها مقر المرزوقين لا يلائم جعلها رزقاً وأما إذا كان قيداً للرزق فهو ظاهر الإباء، وكون المساكن رزقاً للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف
{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)} ، وقوله تعالى: {فواكه} بدل من {رّزْقِ} بدل كل من كل، وفيه تنبيه على أنه مع تميزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لأحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت، فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى: {وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20، 21] وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة. وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الاختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه، وقيل: هو بدل بعض من كل، وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم، ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل. وقيل مكرمون في نيل الرزق حيث يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا. وقرىء {مُّكْرَمُونَ} بالتشديد.
{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)} {على سُرُرٍ} يحتمل أن يكون حالاً من المستكن في {مُّكْرَمُونَ} أو في الظرف قبله وأن يكون خبراً فيكون قوله سبحانه: {متقابلين} حالاً من المستكن في أو في {مُّكْرَمُونَ} أو في الظرف أعني {فِي جنات} وأن يتعلق بمتقابلين فيكون حالاً من المستكن في غيره. وأشير بتقابلهم إلى استئناف بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضاً للاستئناف والمحادثة. وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحياناً فينظر بعضهم إلى بعض، وقرأ أبو السمال {سُرُرٍ} بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكلب يفتحون ما كان جمعاً على فعل من المضعف إذا كان اسماً، واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة. ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع. [بم وقوله تعالى:
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)} {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} إما استئناف لبيان ما يكون فهم في مجالس أنسهم أو حال من الضمير في {متقابلين} [الصافات: 44] أو في أحد الجارين: وجوز كونه صفة لمكرمون. وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي «الصحيح» أنهم خدم أهل الجنة. وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] وقوله سبحانه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} [الطور: 24] {بِكَأْسٍ} أي بخمر كما روى عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وغيرهما عن الضحاك قال: كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عني به الخمر. ونقل ذلك أيضاً عن الحبر. والأخفش وهو مجاز مشهور بمنزلة الحقيقة. وعليه قول الأعشى: وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقاً للمحل على الحال قوله شربت. وتقدير شربت ما فيها تكلف. والقرينة ههنا ما يأتي بعد. وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأساً حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس بمتعين، قال في «البحر» الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأساً إلا وفيه ذلك، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأساً يقال كأس خال ويقال شربت كأساً وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية لخالي كأساً مجاز، وحكى عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره {مّن مَّعِينٍ} في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية. ووصف به خمر الجنة تشبيهاً لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهاراً جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبىء عن دوسها بها قوله: بنت كرم يتموها أمها *** ثم هانوها بدوس بالقدم ثم عادوا حكموها فيهم *** ويلهم من جور مظروم حكم وقول الآخر: وشمولة من عهد عاد قد غدت *** صرعى تداس بأرجل العصار لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت *** منهم فصاحب فيهم بالثار وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكو ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولاً هو الظاهر نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما.
{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)} {بَيْضَاء} وصف آخر للكاس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ {صَفْرَاء} وقد جاء وصف خمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها *** لو مسها حجر مسته سراء والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر: وحمراء قبل المزج صفراء بعده *** أتت في ثيابي نرجس وشقائق حكت وجنة المحبوب صرفاً فسلطوا *** عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق {لَذَّةٍ للشاربين} وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق، وأنشدوا قوله: ولذا كطعم الصرخدي تركته *** بأرض العدا من خشية الحدثان يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد، وقوله: بحديثك اللذ الذي لو كلمت *** أسد الفلاة به أتين سراعا وفي قوله تعالى: {لِلشَّارِبِينَ} دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائناً من كان.
{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده، وقال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحسن به يقال غاله يغوله غولاً واغتاله اغتيالاً، ومنه سمي السعلاة غولاً، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلاً. وروى البيهقي. وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع؛ وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأرزق قال: أخبرني عن قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرىء القيس: رب كأس شربت لا غول فيها *** وسقيت النديم منها مزاجا وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروى ذلك عن مجاهد. وابن زيد. وابن جبير. واختير التعميم وإن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي لا يسكرون كما روى عن ابن عباس وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئاً بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فلا ينزفون مبنياً للمفعول كما قرأ الحرميان. والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وقرأ حمزة. والكسائي {يُنزَفُونَ} بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازماً فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضاً بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال الأبيرد اليربوعي: لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم *** لبئس الندامى كنتم آل أبجرا وفي «البحر» أنزف مشترك بين سكر ونفد فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شربه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق {يُنزَفُونَ} بفتح الياء وكسر الزاي، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القىء وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولاً حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)} {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفاً إلى غيرهم قاله ابن عباس. ومجاهد. وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به، والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم، وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالاً وغنجاً، والوصف على القولين متعد، وجوز كونه قاصراً على أن المعنى ذابلات الجفن مراضه، وما أحيل ذبول الأجفان في الغواني الحسان، ولذا كثر التغزل بذلك قديماً وحديثاً، ومنه قول ابن الأزدي: مرضت سلوتي وصح غرامي *** من لحاظ هي المراض الصحاح والطرف في كل ذلك طرفهن، وجوز أن يكون الوصف متعدياً والطرف طرف غيرهن، والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه *** كأن عليه من حدق نطاقاً وقد ذكر هذا المعنى أيضاً ابن رشيق في قول امرىء القيس: من القاصرات الطرف لو دب محول *** من الذر فوق الأنف منها لأثرا وهو لعمري رشيق بيد أني أقول: الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماماً للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول، والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين، والجملة قيل عطف على ما قبلها، وقيل: في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف {عِينٌ} جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال، ومنه قيل للبقر الوحشي عين، وقيل: العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها، والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجمال يدفع ما عسى أن يقال، وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله: بتيهاء قفر والمطي كأنها *** قطاء الحزن قد كانت فراخاً بيوضها والمراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار في الصفاء وشوب البياض بقليل صفرة مع لمعان كما في الدر، والأكثرون على تخصيصه ببيض النعام في الأداحي لكونه أحسن منظراً من سائر البيض وأبعد عن مس الأيدي ووصول ما يغير لونه إليه، والعرب تشبه النساء بالبيض ويقولون لهن بيضات الخدور، ومنه قول امرىء القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها *** تمتعت من لهو بها غير معجل والبياض المشوب بقليل صفرة في النساء مرغوب فيه جداً؛ قيل وكذا البياض المشوب بقليل حمرة في الرجال وأما البياض الصرف فغير محمود ولذا ورد في الحلية الشريفة أبيض ليس بالأمهق. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس وهو وغيره عن ابن جبير. وابن أبي حاتم. وابن جرير عن السدي أن البيض المكنون ما تحت القشر الصلب بينه وبين اللباب الأصفر والمراد تشبيههن بذلك بعد الطبخ في النعومة والطراوة فالبيضة إذا طبخت وقشرت ظهر ما تحت القشرة على أتم نعومة وأكمل طراوة، ومن هنا تسمع العامة يقولون في مدح المرأة: كأنها بيضة مقشرة، ورجح ذلك الطبري بأن الوصف بمكنون يقتضيه دون المشهور لأن خارج قشر البيضة ليس بمكنون، وفيه أن المتبادر من البيض مجموع القشر وما فيه وأكلت كذا بيضة الأكل فيه قرينة إرادة ما في القشر دون المجموع إذ لا يؤكل عادة وحينئذٍ لا يتم ما قاله الطبري فالأول هو المقبول، ومعنى المكنون فيه ظاهر على ما سمعت، وقد نقل الخفاجي هذا المعنى عن بعض المتأخرين وتعقبه بأنه ناشىء من عدم معرفة كلام العرب وكأنه لم يقف على روايته عن الحبر ومن معه وإلا لا يتسنى له ما قال، ولعل الرواية المذكورة غير ثابتة وكذا ما حكاه أبو حيان عن الحبر من أن البيض المكنون الجوهر المصون لنبو ظاهر اللفظ عن ذلك، وقالت فرقة: المراد تشبيههن بالبيض في تناسب الأجزاء والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء والتناسب ممدوح، ومن هنا قال بعض الأدباء متغزلاً: تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى *** بهن اختلافاً بل أتين على قدر وأنت تعلم بعد فرض تسليم أن تناسب الأجزاء في البيضة معروف بينهم أن الوصف بالمكنون مما لا يظهر له دخل في التشبيه، واستشكل التشبيه على ما تقدم بآية عروس القرآن {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58] فإنها ظاهرة في أن في ألوانهن حمرة وأين هذا من التشبيه بالبيض المكنون على ما سمعت قبل فيتعين أن يراد التشبيه من حيث النعومة والطراوة كما روي ثانياً أو من حيث تناسب الأجزاء كما قيل أخيراً. وأجيب بأنه يجوز أن يكون المشبهات بالبيض المكنون غير المشبهات بالياقوت والمرجان، وكون البياض المشوب بالصفرة أحسن الألوان في النساء غير مسلم بل هو حسن ومثله في الحسن البياض المشوب بحمرة على أن الأحسنية تختلف باختلاف طباع الرائي: وللناس فيما يعشقون مذاهب *** والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقيل يجوز أن يكون تشبيههن بالبيض المكنون بالنظر إلى بياض أبدانهن المشوب بصفرة ما عدا وجوههن وتشبيههن بالياقوت والمرجان بالنظر إلى بياض وجوههن المشوب بحمرة، وقيل تشبيههن بهذا ليس من جهة أن بياضهن مشوب بحمرة بل تشبيههن بالياقوت من حيث الصفاء وبالمرجان من حيث الأملاس وجمال المنظر. وإذا أريد بالمرجان الدرر الصغار كما ذهب إليه جمع دون الخرز الأحمر المعروف يجوز أن يكون التشبيه من حيث البياض المشوب بصفرة فلا إشكال أصلاً.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} معطوف على {يُطَافُ} [الصافات: 45] وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد بن فياض: وما بقيت من اللذات إلا *** محادثة الكرام على الشراب ولثمك وجنتي قمر منير *** يجول بوجهه ماء الشباب وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالاعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتماً وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية الحال وفراغ البال.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في تضاعيف محاورتهم {إِنّى كَانَ لِى} في الدنيا {قَرِينٌ} مصاحب.
{يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} {يِقُولُ} لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي بالبعث [بم كما ينبىء عنه قوله سبحانه:
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء؛ وقيل لمسوسون مربوبون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث «العاقل من دان نفسه» وقرىء {المصدقين} بتشديد الصاد من التصدق، واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه: {أَءذَا مِتْنَا} الخ، وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضاً فقال صاحبه: اللهم إن فلاناً اشترى بألف دينار أرضاً وإني أشتري منك بألف دينار أرضاً في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه داراً بألف دينار فقال: اللهم إن فلاناً قد ابتنى داراً بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة داراً بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال: اللهم إن فلاناً تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال: اللهم إن فلاناً اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار وإني أشتري منك خدماً ومتاعاً في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال: فلان قال: نعم فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أئنك لمن المصدقين بهذا اذهب فوالله لا أعطيك شيئاً فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مآل المتصدق الجنة ومآل الآخر النار وفيهما نزلت الآية، وقيل هما أخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقاً ومتصدقاً أيضاً والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَدِينُونَ} ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلباً للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفني نبعث ونجازي، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره تراباً عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه.
{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)} {قَالَ} أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكى لهم مقالة قرينة له في الدنيا {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} على أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم، والمراد من الاستفهام العرض أو الأمر على ما قيل، والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه، ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه، ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا على الأعراف فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار؛ وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعاً والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه، وقيل قائل {هَلْ أَنتُمْ} الخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم، وقيل القائل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه: هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه.
{فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} {فَأَطَّلِعَ} أي على أهل النار {فَرَءاهُ} أي فرأى قرينه {فِى سَوَاء الجحيم} أي في وسطها، ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي {مُّطَّلِعُونَ} بإسكان الطاء وفتح النون {فَأَطَّلِعَ} بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، وهي قراءة ابن عباس. وابن محيصن. وعمار ابن أبي عمار. وأبي سراج، وقرىء {مُّطَّلِعُونَ} مشدداً {فَأَطَّلِعَ} مشدداً أيضاً مضارعاً منصوباً على جواب الاستفهام. وقرىء مطلعون بالتخفيف {فَأَطَّلِعَ} مخففاً فعلاً ماضياً و{فَأَطَّلِعَ} مخففاً مضارعاً منصوباً. وقرأ أبو البرهسم. وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه {مُّطَّلِعُونَ} بتخفيف الطاء وكسر النون {فَأَطَّلِعَ} ماضياً مبنياً للمفعول. ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة والسلام: «أو مخرجي هم» ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربونه مثلاً كما يقال يضربونه وعليه قوله: هم الآمرون الخير والفاعلونه *** إذا ما خشوا من محدث الدهر معظماً وأنشد الطبري قول الشاعر: وما أدري وظني كل ظن *** أمسلمني إلى قومي شراحي ومثله قول الآخر: فهل فتى من سراة الحي يحملني *** وليس حاملني إلا ابن حمال وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملاً له على الفعل وليست مثل النون في القراءة، وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل. وقال بعضهم: إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين، ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله: وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم. ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل، وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال: إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضاً على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلاً فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق، ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح، والبيت قيل مصنوع لا يصح الاستشهاد به، وقيل إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرى إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز، وللنحاة في مسألة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام طويل، حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وذهب الأخفش. وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفهما للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأمسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه، وحديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه، هذا وطلع واطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجىء الاطلاع متعدياً يقال أطلعه على كذا فاطلع، و{مُّطَّلِعُونَ} في قراءة أبي عمرو بمعنى مطلعون بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الاطلاع وأحب أن لا يستبد به أدباً عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا وأطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء {فَأَطَّلِعَ} فصيحة والعطف على مقدر، والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضاً فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولا بد من تقدير اطلع بعد ذلك ليصلح ترتب {فَرَءاهُ} على ما قبله و{هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} عليه بمعنى الأمر تأدباً ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور، وكذا على القراءة التي بعدها، وعلى قراءة أبي البرهسم ومن معه هل أنتم مطلعي فاطلعوه فرآه الخ، واطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن، وعن صاحب اللوامح أن طلع واطلع اطلاعاً بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة أطلع مبنياً للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي أطلع به لأن أطلع لازم كأقبل وقد علمت أن أطلع يجىء متعدياً كأطلعت زيداً. ورد أبو حيان الاحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل.
|